(122-216هـ)
مضى
على العرب زمن كانت صدورهم كتباً مفتوحة ، وصحفاً
يحتفظون فيها بالأخبار والأشعار والنوادر وأيام العرب . تجلس على العربي فيسرد
عليك من ذاكرته ما وعته مما أثر عن العرب في جاهليتهم وإسلامهم من آداب وحكم وأمثال
وقصص وغير ذلك مما نقرؤه فيكتب التراث في وقتنا الحاضر .
وإنك لتعجب كيف يستطيع أن يحتفظ بذلك كله ، ويختزنه في
حافظته ، ثم يرويه لا يخرم منه حرفاً ويؤديه في لغة سليمةٍ فصيحة .
وكانت
ذواكر بعض العرب ودواوين متحركة تحتفظ بآلاف الأبيات
الشعرية وكان بعض هؤلاء الحفظة على استعداد لأن يروي لك أشعار امرئ القيس وزهير
والنابغة والأعشى وعنترة وغيرهم من شعراء الجاهلية من مشهورين ومغمورين وعلى
استعداد لأن يقص عليك من أخبار العرب ما تنوء بحمله الأسفار الكبيرة
.
وليس
هذا القول من المبالغة في شيء لأن تبادل الأخبار والأشعار والقصص والمعلومات كان
يتم عن طريق التلقي الشفهي ولم يكن العربي آنذاك يحمل في جيبه ورقة وقلماً يدون به
ما يسمع وما يلقى إليه لأنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة والذاكرة إذا مرنت على
الحفظ ودربت واعتمد عليها
صاحبها فلم يسعفها بالتدوين ولم يضعفها بالكتابة تنامت قدرتها الحافظة لتصل عند بعض الناس إلى اختزان المسموع
من أول مرة بلفظه ومعناه.
والأمثلة
على ذلك كثيرة فقد كان المتعلمون إلى وقت قريب يحفظون المعلقات ومتخيرات القصائد والأشعار
ومتون العلوم ومن هؤلاء الأصمعي أحد أعلام الرواة في تاريخ العرب عرف عنه قوة
الذاكرة وكثرة المحفوظ وتنوعه والإسهام الوافر في حفظ تراث العرب وأخباره وأشعارها
وأيامها وقصصها ونوادرها و طرائفها وما شئت مما يمتع النفوس ويثري العقول من بدائع
القول ونوادر
الحكم .
نسبه وولادته :
أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الأصمعي
الباهلي ،
شيخ الرواة في العصر العباسي ولد في عام مائة واثنين
وعشرين أو ثلاثة وعشرين من الهجرة . وأدرك من الدولة الأموية عشر سنوات.
نشأته وتوجهه العلمي
نشأ
في البصرة ، وتلقى العلم على يد علمائها ، ومن أبرز من
أخذ عنه شعبة بن الحجاج المحدث ، وحماد بن سلمة بن
دينار ، وحماد بن زيد بن درهم الأزدي ، ومسعر بن كدام
الهلالي . وكانت البصرة تشرف على البادية وتقع في أطرافها ،
وكان كثير من الأعراب الرواة يفدون إليها لشراء ما يحتاجون إليه من الطعام والثياب
، ويلتقي بهم العلماء ، ويدونون ما يروونه من أخبار العرب وأشعارهم .
ثم
تحولت الرواية إلى تجارة رابحة ، وأقبل كثير من الأعراب
في البادية إلى البصرة وغيرها يروون ما لديهم مقابل أجر معلوم ، بل بلغ ببعض
الأعراب أن استوطن البصرة لهذا الغرض وأخذ يتكسب بروايته . وقد ساق ابن النديم في
كتابه الفهرست عدداً من هؤلاء الأعراب الرواة وأخبارهم .
رحلاته
في سبيل الرواية
وكان
الأصمعي يختلف إلى هؤلاء الرواة ويأخذ عنهم ويدون ما يسمعه ،
ولم يكتف بهذا بل كان يشد الرحال إلى حيث مضارب البادية في عمق صحراء نجد ويروي عن
أبنائها وقد استفاد من رحلاته إلى مكة المكرمة للحج في مقابلة الأعراب ومشافهتهم
والأخذ عنهم وله في ذلك أخبار ونوادر كثيرة روتها له كتب الأدب كالأغاني والكامل
والعقد الفريد وعيون الأخبار واجتمعت له خلال هذه الرحلات والمقابلات طائفة كثيرة
من الأخبار والنوادر والغريب أودعها مؤلفاته الكثيرة التي ألفها طيلة حياته التي
امتدت زهاء التسعين عاماً .
انتقاله
على بغداد
لما
طارت شهرة الأصمعي رحل من البصرة وسكن في بغداد عاصمة الدولة العباسية ومقر
الخلفاء والوزراء والعلماء وكبار رجال الدولة ، واتصل
بهارون الرشيد وله معه أخبار كثيرة ونوادر .
الأصمعي
ينافس أبا عبيدة ويفحمه
عاصر
الأصمعي أبا عبيدة معمر بن المثنى وكانت بينهما منافسة
في رواية اللغة والأدب والأخبار ، قال الأصمعي : حضرت
أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع ، فقال لي : كم كتابك في الخيل ؟ فقلت : جلد واحد . فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال
: خمسون مجلدة . فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمّه . فقال : لست بيطاراً . وإنما هذا شيء أخذته عن العرب . فقال لي : قم يا أصمعي وافعل
ذلك . فقمت وأمسكت ناصيته وشرعت أذكر منه عضواً عضواً ، وأضع يدي عليه وانشد
ما قالت العرب فيه ، إلى أن فرغت منه ، فقال : خذه . فأخذته .
وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه.
وهذه
الحكاية تدل على قوة حافظته وحسن تطبيقه لما يحفظ .
من
أخلاقه ومناقبه
وكان
الأصمعي مع ظرفه تقياً ورعاً شديد الاحتراز في تفسير الكتاب والسنة فإذا سأل عن
شيء منهما يقول العرب تقول :
معنى هذا كذا ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة ، وأدرك الأصمعي خلافة الأمين والمأمون
ولما قامت فتنة المعتزلة في مسألة خلق القرآن أيام المأمون لزم الأصمعي بيته
فراراً بدينه وعقيدته . واحتج بكبر سنه وضعفه ، وكان
المأمون على الرغم من هذا يستشيره ويطلب جوابه في كثير من المسائل .
ذكر
ابن خلكان في وفيات الأعيان وغيره أن الأصمعي شوهد وهو يركب حماراً
، فقيل له : بعد براذين الخلفاء تركب هذا !
فقال: هذا وأملك ديني أحب إلي من ذاك مع فقده .
من آثاره
من
مؤلفات الأصمعي المطبوعة : كتاب الخيل ، وفحولة الشعراء
، والأضداد ، والقلب والإبدال ، وخلق الإنسان ، والإبل ، والشاء
، والأصمعيات ، وهي مختارات شعرية .