( 303-354هـ )
لا
اعتقد أن هناك شاعراً عربياً قديماً أو حديثاً كتب عنه من الدراسات والأبحاث
والمقالات كم كتب عن المتنبي ، فقد كان هذا الشاعر
محظوظاً في ظفره دون سواه من الشعراء بهذا الاهتمام الكبير من جمهرة الباحثين
والدارسين.
عاصر
المتنبي عدداً من الشعراء كانت لهم شهرة أدبية كبيرة ولكنهم لم يحظوا إلا بمقدار
يسير مما حظي به في أوساط الكاتبين والمتحدثين ، ومن
الصعوبة إحصاء كل ما كتب عن المتنبي وبخاصة ما كتب عنه بلغات غير عربية ، وما كتب
عنه في الصحف والمجلات ، وما ألقي عنه من أحاديث في الإذاعات ومحاضرات ، وقد حاول
باحثان عراقيان هما الأستاذان كوريس عواد وميخائيل عواد
أن يحصيا كل ما كتب عن المتنبي من دراسات وأبحاث ومقالات وذلك في كتابهما ( رائد الدراسة عن المتنبي ) فجاء مع فهارسه في أكثر
من خمس مئة صفحة .
وقد
ندت عنهما دراسات وأبحاث عديدة عن المتنبي لم يذكراها
في الكتاب ، كما استجدت أيضاً أبحاث ومقالات كثيرة عن
الشاعر كتبت بعد صدور الكتاب . والحق ان المتنبي كما
قال عنه ابن رشيق القيرواني : مالئ الدنيا وشاغل الناس .
وسر
الاهتمام بهذا الشاعر دون غيره يكمن في شاعريته المحلقة ،وما يكتنف شخصيته من غموض على الرغم من أن حياته في
مجملها معروفة لدى دارسيه ، يضاف إلى ذلك كثرة ما اثير
حوله من خصومات واختلافات في حياته وبعد مماته ، ولديوانه الذي شرق وغرب وأنجد
وأتهم كما يقول القدامى نحو من ستين شرحاً .
وقد
عاش المتنبي في عصر تقلصت فيه هيبة الخلافة العباسية ،
وضعف نفوذها ، ونشأت في جسم الدولة دويلات إقليمية صغيرة تتمتع باستقلالها الذاتي
، لا تدين للخليفة العباسي إلا بالاسم ، كالدولة البويهية
في العراق وبلاد فارس ، والدولة الحمدانية في شمال
العراق والشام ، والدولة الإخشيدية في مصر .
نسبته
وولادته
هو
أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي
الكندي الكوفي .
ولد
في الكوفة سنة ثلاث وثلاث مئة في محلة تسمى كندة نسبة إلى القبيلة التي كانت تسكنها ، ولا ينتسب إليها ، بل هو جعفي
القبيلة ، وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج.
نشأته وثقافته.
نشأ
المتنبي في الكوفة ، وكانت تزهر بالعلماء والأدباء
والشعراء ، وشعر منذ صباه برغبة قوية في دراسة اللغة والأدب ، فكان يمضي الساعات
الطوال في القراءة والإطلاع ، ويستعير بعض الكتب من الوراقين الذين تمتلئ بهم
أسواق الكوفة ، فإذا هضم ما فيها وحفظها أعادها إليهم . وكان إلى جانب نهمه في
القراءة يحضر مجالس العلماء ، ويستمع إلى ما يدور فيها
من مناقشات في اللغة والأدب .
وقد
أظهر تفوقاً في اللغة العربية واطلاعاً واسعاً على غريبهما وحوشيهما ، وكان – كما قال
ابن خلكان - : لا يسأل عن شيءٍ إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر.
قيل : إن أبا علي الفارسي
عالم اللغة والنحو المشهور قال له يوماً : كم لنا من الجموع على وزن فُعْلى ؟ فقال
المتنبي ببديهة حاضرة : حجلى وظربى ، قال أبو علي : فطالعت كتب اللغة ثلاث ليالٍ على أن
أجد لهذين الجمعين ثالثاً ، فلم أجد .
رحلاته
رحل
من الكوفة إلى بغداد وله من العمر سبعة عشر عاماً ،
ويبدو أنه لم يجد في بغداد ما يدفعه إلى البقاء فيها ، فغادرها إلى الشام وتجول في
باديتها ومدنها وقراها ، وقابل بعض الزعماء والأعيان هناك ومدح منهم من مدح ، وهجا
من هجا ، وتعرض في أثناء تجواله للاعتقال حيث حبسه أمير حمص لؤلؤ
نائب الإخشيد.
وبعد
خروجه من المعتقل بفترة ذهب إلى أنطاكية ومدح أميرها
أبا العشائر الحمداني ، ثم اتصل بأمير حلب سيف الدولة
الحمداني عام سبعة وثلاثين وثلاث مئة ، ومكث عنده إلى سنة ثلاث مئة وخمس وأربعين ،
وتعد هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة المتنبي ، حيث أتيح
له أن يستقر بعد التطواف الطويل ، ويجد أميراً عربياً
مسلماً يستمع إلى شعره ، وقدر شاعريته ، ويحله في
إمارته منزلاً رفيعاً ومكانة سامقة .
وكان
سيف الدولة قد أقام إمارته على الحدود المتاخمة للروم ولذلك كانت حروبه ومنازعاته
وغزواته معهم لا تنتهي , و كان رجلاً عربياً شهماً لا
يصبر على الضيم ، فبمجرد أي يرى الروم قد أخلّوا بصلح أو هدنة أو انقضوا على بلاده
حتى يعلن النفير العام ويتقدم جيشه لمنازلة الروم ، وكان المتنبي يصحبه في هذه
المعارك ويشترك فيها معه ، ويبلي البلاء الحسن ، ثم يخلد هذه الفعال العظام
والانتصارات الباهرة في شعره من خلال شخصية سيف الدولة ذات الإباء والشمم
والفروسية والبطولة .
ولكن
يبدو أن استقرار المتنبي في حلب كان إلى حين ، وكأنما
كتب عليه أن يمضي حياته متنقلاً لا يضع العصا عن منكبه ، فبعد هذه السنوات التي
قضاها في رحاب سيف الدولة استطاع الحساد أن يوقعوا بين الأمير وشاعره ، فتنكر له
سيف الدولة فخرج المتنبي إلى مصر حيث كافور الإخشيدي ، وأقام عنده أكثر من أربع
سنوات لم تكن من السنوات الهانئة المستقرة في حياة أبي الطيب ، وكان يأمل من كافور
ولاية ، فلما لم يتحقق أمله هجاه وهرب ليلة عيد الأضحى ، وقصد الكوفة وأقام بها
زمناً يسيراً ثم رحل إلى بغداد ، ثم إلى بلاد فارس ومعه راويته وصديقه علي بن حمزة
البصري ، ومدح هناك ابن العميد ، والتقى بعضد الدولة بن بويه
الديلمي ، وأنشده قصيدته النونية ،
مغاني الشعب
طيباً في المغاني بمنزلة
الربيع من الزمان
مقتله
ثم خرج من بلاد فارس متوجهاً إلى بغداد ثم إلى الكوفة ، وفي الطريق عرض له فاتك الأسدي
في عدّةٍ من أصحابه ، فقاتلهم ، فقتل هو وابنه محسّد
وغلامه مفلح سنة أربع وخمسين وثلاث مئة بالقرب من النعمانية
في العراق. رحمه الله.