ابن قيم الجوزية

(691-751هـ)

صحا العالم الإسلامي على غزو الصليبيين منذ أواخر القرن الخامس الهجري الذي تتابعت جحافله على سواحل الشام ومصر زهاء قرنين من الزمان . وفي القرن السابع اكتسح التتار شرق العالم الإسلامي وزحفوا إلى بغداد حيث سقطت في أيديهم عام ست مئة وستة وخمسين وسقطت بسقوطها الدولة العباسية في المشرق ، وواصل التتار تقدمهم إلى بلاد الشام في طريقهم إلى مصر ثم شمال أفريقية ولكنهم منوا بهزيمة ساحقة في معركة عين جالوت في فلسطين بقيادة السلطان قطز والأمير بيبرس البندقداري . وخضعت الشام ومصر لحكم المماليك البحرية ، وتمكن الأمير بيبرس من أن يظفر بالسلطنة بعد أن غدر بالسلطان قطز بعد معركة عين جالوت عام 658هـ ولكي يدعم سلطانه في مصر والشام أحيا الخلافة العباسية وجعل مقرها في مصر ، ولكن الخليفة العباسي لم يكن له إلا اسم الخلافة فقط ، أما مقاليد الحكم وتصريف شؤون البلاد فكانت في يد الظاهر بيبرس ، وقد خاض المماليك حروباً ضد الصليبيين في مصر والشام ، ودفعوا خطر المغول عن الشام وأطراف العراق وانتهت دولة المماليك البحرية في عام سبع مئة وأربعة وثمانين من الهجرة .

في عهد هذه الدولة عاش ابن قيم الجوزية ، وأمضى حياته التي امتدت ستين سنةً حافلةً بالعطاء الثر في مجال العلم و الإرشاد والتوجيه والإصلاح ، وضرب فيها أمثلة حية للتضحية والإيثار ونكران الذات ، وقدم خلاصة للفكر الإسلامي الموضوعي المستنير من خلال أبحاثه ومؤلفاته .

  نسبه وولادته ووفاته

ولد أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي في السابع من شهر صفر عام ست مئة وواحد وتسعين من الهجرة وذلك في مدينة دمشق وتوفي في اليوم الثالث عشر من سنة سبع مئة وإحدى وخمسين وكانت وفاته في دمشق أيضاً . وعرف بابن قيم الجوزية ، لأن أباه كان قيماً على مدرسة الجوزية بدمشق ،وقد أنشأ هذه المدرسة محيي الدين بن الجوزي في سوق القمح بدمشق ، وكان ابن القيم إماماً فيها ، كما كان مدرساً بالصدرية ، وهي مدرسة تقع في درب الريحان في دمشق ولازم التدريس ابنه عبد الله كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية .

دراسته وشيوخه

وقد تلقى ابن القيم علوم الشريعة واللغة في دمشق على عدد من علمائها ، ذكر طائفة منهم ابن حجر العسقلاني في كتابه ( الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ) .

ومن أبرز أساتذته : والده الذي تلقى عليه علم الفرائض ، وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي لازمه ابن القيم منذ مجيئه من مصر في عام سبع مئة واثني عشر من الهجرة إلى أن توفي في عام سبع مئة وثمانية وعشرين في دمشق .

وأسهم ابن القيم في تهذيب كتب شيخه ونشر علمه . ولما اعتقل ابن تيمية في قلعة دمشق ، اعتقل في حبس منفرد عنه تلميذه ابن القيم بعد أن أهين وضرب بالدرة ، وطيف به على جمل إهانة له وتشهيراً به ، ومكث في معتقله حتى توفي شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكان سبب حبسه إنكاره شدّ الرحال لزيارة قبر الخليل عليه السلام .

تلاميذه

أما تلاميذه الذين أخذوا عنه العلم فكثيرون ، وبعضهم مشهور معروف ،كابن رجب صاحب طبقات الحنابلة ، وقد أثنى على شيخه ثناءً جميلاً في كتابه ومما قال عنه : وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى لم أشاهد مثله في ذلك ولا رأيت أوسع منه علماً ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه ، ولازمت مجلسه أزيد من سنة ، وسمعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة .

ومن تلاميذه ابن كثير ، وقد قال عنه : وكان حسن القراءة والخلق كثير التودد ، لا يحسد أحداً ، ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد ، وكنت من أصحاب الناس له وأحب الناس إليه .

منهجه في الدعوة والإصلاح

وقد نهج ابن القيم نهج أستاذه ابن تيمية في الدعوة إلى الإصلاح والعودة إلى طريق السلف الصالح ونبذ الخلافات والاحتكام إلى ما جاء به القرآن وجاءت به السنة والتقيد بنصوصهما وما أجمع عليه أئمة العلماء ، وأقره العق بما لا يتعارض مع نصوص الشريعة أو يدعو إلى تأويلها بما لا تحتمله نصوصها ولا بما يتفق مع مقاصد كلام العرب الذين يحتج بلغتهم .

وفي الواقع أن ابن القيم أتى ليكمل الدور الذي نهض به ابن تيمية ويمضي إلى نهاية الشوط الذي بدأه شيخه في إصلاح العصر وأهله ،  وقد اتفق رأيهما على أن الإصلاح يجب أن يبدأ من العقيدة أولاً المذاهب والفرق ، ثم إقامة العلاقات الإجتماعية والاقتصادية بين الناس بعضهم ببعض ن وبين الراعي والرعية ، وفقاً لأحكام المعاملات وقد لقي ابن القيم كما لقي شيخه ابن تيمية في سبيل ترسيخ دعوتهما إلى الإصلاح وتنقية الدين حرباً شعواء من بعض معاصريهم من العلماء ولكنهم صبرا واحتسبا ذلك في جنب الله .

آثاره

خلف ابن القيم ثروة علمية تشهد له بغزارة العلم ونفاذ البصيرة وقوة الإدراك وحسن الفهم ، وعمق التحليل والقدرة على الحجاج والإقناع بالتهدي إلى مواطن الحق والصواب ، ومن حسن الحظ أن أغلب مؤلفاته وصلت إلينا ،وأخذت طريقها إلى النشر منذ زمن ، وصارت معيناً لا ينضب للمراجعين والدارسين ، وكثير منها متفرد في موضوعه وفي المسائل التي يعالجها .

ومن ابرز هذه المؤلفات : زاد المعاد في هدي خير العباد ، وهو كتاب يتناول سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وغزواته كما يتضمن أبحاثاً فقهية موسعة تتصل بموضوعه . وقد نشر الكتاب منذ سنوات نشرة علمية محققة في خمس مجلدات .

وكتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين ، يبحث في الفقه وأصوله.

وكتاب الروح ويتضمن أبحاثاً دقيقة في حقيقة الروح وأقوال العلماء في ذلك .

وطبع كتاب أخبار النساء منسوباً إليه ، وهو ليس له وإنا هو لابن الجوزي المتوفى عام خمسمئة وسبعة وتسعين من الهجرة . 

 

 

الأعلى