أبو عمرو الشعبي _ داهية العرب

(19 _ 103 هـ)

علم من أعلام التاريخ الإسلامي ،اشتهر بالذكاء وحضور البديهة والأجوبة المسددة المسكتة وحسن التخلص من المواقف المحرجة التي لايحسن غيره الخروج منها بسلام إلى جانب شهرته العلمية والتاريخية .

 

ذلك هو أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي الهمداني .ولد في الكوفة وهناك خلاف بين العلماء في تحديد السنة التي ولد فيها ذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان ويقع الخلاف بين سنة سبع عشرة وسنة إحدى وثلاثين من الهجرة . وهي فترة ليست قصيرة بالنسبة لعمر الإنسان وكما اختلفوا ذلك الاختلاف الشديد في تحديد عام ولادته اختلفوا أيضاً في تحديد سنة وفاته حيث قيل : توفي سنة ثلاث ومائة من الهجرة وقيل : أربع وقيل: خمس وقيل: ست وقيل: سبع.

 

والسبب في هذا الاختلاف أن الشعبي عاش في عصر لم يكن العلماء فيه يعنون بتدوين ما يقع تحت أيديهم من الأخبار والأشعار والقصص لأن المشافهة في تناقل العلوم كانت هي الغالبة.

 

فلما اتجه العلماء إلى التدوين في القرن الثاني الهجري لم يؤولوا إلى شيء مكتوب ، وإنما اعتمدوا على ذواكر الرواة والحفظة ، والذاكرة ليست ورقة مكتوبة ولا شريطاً مسجلاً ، فكان الخلاف والتفاوت في رواية الأحداث .

والشعبي معدود من التابعين ، فقد ذكر أنه أدرك خمسمائة من الصحابة ، وروى عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعبيد الله بن يزيد الأنصاري وعدي بن حاتم وسمرة بن جندب والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وأنس بن مالك وعمران بن حصين وأبي موسى الأشعري وغيرهم من جلّة الصحابة .

نشأ الشعبي في الكوفة وبها توفي ، وكان قد سكن بها عدد من الصحابة بعد أن مصّرها سعد بن أبي وقاص في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم .

وأخبار الشعبي ونوادره كثيرة نجدها مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ ، كما أن المصادر التي تحدثت عنه ليست قليلة ، ومن أهمها الطبقات الكبرى لابن سعد ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان ، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني .

وأقوال العلماء في فضله وغزارة علمه وسعة محفوظه كثيرة ، روي أن ابن عمر رضي الله عنه مرّ به يوماً وهو يحدث بالمغازي فقال : شهدت القوم وإنه أعلم بها مني . وقال الزهري : العلماء أربعة : ابن المسيب بالمدينة ، والشعبي بالكوفة ، والحسن البصري بالبصرة ، ومكحول بالشام .

وعن أبي بكر الهذلي قال : قال لي محمد بن سيرين : يا أبا بكر إذا دخلت الكوفة فاستكثر من حديث الشعبي ، فإنه كان ليأل وإن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – لأحياء .

وكان الشعبي إلى جانب علمه الواسع سريع الحفظ ، يحفظ الشيء من سماعه مرة واحدة ، روي عنه أنه قال : ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ، ولا حدثني رجل حديث قط إلا حفظته ، ولا أحببت أن يعيده علي .

وعن أبي شبرمة قال : سمعت الشعبي يقول : ما سمعت مذ عشرين سنة رجلاً يحدث بحديث إلا وأنا أعلم به منه ، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً .

وذكر انه قال : ما ادري شيئاً أقل من الشعر ، ولو شئتم لأنشدتكم شهراً لا أعيد .

وعن يونس بن أبي اسحاق قال : كنت مع الشعبي والناس يسألونه من صلاة العصر إلى المغرب فقال : لو كنتم تلقموني الخبيص لكرهته . والخبيص : طعام يعمل من التمر والسمن.

وقصة سفارته إلى ملك الروم مشهورة ، وهي تدل على ذكائه وألمعيته وحضور بديهته قال : أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم ، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته ، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده فحبسني أياماً كثيرة حتى استحثثت خروجي ، فلما أردت الانصراف قال لي : من أهل بيت المملكة أنت ؟  فقلت : لا ، ولكني رجل من العرب في الجملة فهمس بشيء ، فدفعت إلي رقعة وقال لي : إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة .

قال : فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك ، وأنسيت الرقعة ، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرته ، فرجعت فأوصلتها إليه ، فلما قرأها قال لي : أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك ؟ قلت نعم ، قال لي : من أهل المملكة أنت ؟ قلت : لا ، ولكني من العرب في الجملة . ثم خرجت من عنده فلما بلغت الباب رددت ، فلما مثلت بين يديه قال لي : أتدري ما في الرقعة ؟ فقلت : لا ، قال اقرأها ، فقرأتها ، فإذا فيها : عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره . فقلت : والله لو علمت ما حملتها ، وإنما قال هذا لأنه لم يرك ، قال : أفتدري لم كتبها ؟ قلت : لا ، قال : حسدني عليك واردا أن يغريني بقتلك ، قال: فتأدّى ذلك إلى ملك الروم فقال: ما أردت إلاّ ما قال .

ولما حمل لشعبي إلى عبد الملك بن مروان وجالسه قال له : يا شعبي ، لا تساعدني على قبح . ولا ترد عليّ الخطا في مجلسي ، ولا تكلفني جواب التشميت ، ولا جواب السؤال والتعزية ، ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى ، واجعل بدل التعريض لي صواب الاستماع مني ، واعلم أن صواب الاستماع أولى من صواب القول ، وإذا سمعتني أتحدث فلا يفتك منه شيء وأرعني فهمك وسمعك ولا تجهد نفسك في تطرية سواي ، ولا تستدع بذلك الزيادة من كلامي ، فإن أسوأ الناس حالاً من شكر الملوك بالباطل ، وأسوأ حالاً منه من استخف بحقهم ، واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الإحسان ، ويسقط حق الحرمة وإن الصمت في موضعه وعند إصابته فرصة .

وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت ، فقال له الشعبي : ألا تتكلم ؟ فقال : أسكت فأسلم ، وأسمع فأعلم ، إن حظ المرء في أذنه له ، وفي لسانه لغيره .

وقال رجل للشعبي كلاماً أقذع فيه ، فقال له : إن كنت صادقاً غفر الله لي ، وإن كنت كاذباً غفر الله لك .

وقال : كانت درة عمر بن الخطاب أهيب من سيف الحجاج .

وقال : من زوج كريمته من فاسق قطع رحمها .

واحضر الشعبي بين يدي الحجاج ، وكان الشعبي قد خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث فسلم على الحجاج بالإمرة ، ثم قال : أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن اعتذر إليك لغير ما يعلم الله أنه الحق ، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً ، فقد والله خرجنا عليك وجهدنا كل الجهد فما كنا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء ، وقد نصرك الله علينا ، وأظفرك بنا ، فإن سطوت فبذنوبنا ، وما جرت إلينا أيدينا ، وإن عفوت عنا فبحلمك ، وبعد ، فالحجة لك علينا .

فقال الحجاج : أنت والله أحب إلي ممن يدخل علي يقطر سيفه من دمائنا ، ثم يقول : ما فعلت وما شهدت ، قد أمنت عندنا يا شعبي ، فانصرف.

وذكر أن الحجاج قال له : كم عطاءك في السنة ؟

فقال : ألفين . قال ويحك ! كم عطاؤك ؟ قال : ألفان ، قال : كيف لحنت أولاً ؟ قال : لحن الأمير فلحنت ، فلما أعرب أعربت ، وما يمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا ، فاستحسن ذلك منه وأجازه .

وكلم الشعبي عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقيين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى ، فقال له : أيها الأمير ، إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم ، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم فأطلقهم .

وكان الشعبي نحيفاً ضئيل الجسم ، فقيل له يوماً : ما لنا نراك ضئيلاً؟ فقال : زوحمت في الرحم . وكان قد ولد هو وأخ له في بطن واحد .

وبأمثال هذه الأجوبة المسددة المفحمة كان يسكت معارضيه وينتزع الحجة من أفواههم ، ويقطع عليهم أدلتهم .

كما أن حسن تأتيه للأمور واللباقة في عرض ما يريد مكناه من الظفر بتقدير الخلفاء والأمراء ، ونجاح مساعيه لديهم .

وكان خفيف الظل يحب النكتة ، ويطرب لها ، من ذلك أنه قال لخياط ثياب مر به في الطريق : عندنا حبّ مكسور تخيطه ؟ والحب : الجرة يوضع فيها الماء أو كل سائل . فقال الخياط : نعم ، إن كان عندك خيوط من ريح .

 

 

الأعلى